04 أكتوبر الوقف صناعة للحياة واصلاح للمجتمعات
الحمد لله الّذي بنعمته تتمُّ الصّالحات، وأفضل الصّلاة وأتمُّ السَّلام على إمامِ الأنبياء، وخاتم المرسلين، سيّدنا ونبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فمرحباً بكم أيّها الكرام، في وقف دار التّقوى، حيث نستظلّ وإياكم في ظلال الأجر الّذي لا ينقطع، والثّواب الّذي لا يفنى، وصولاً إلى الفوز بالسّعادة الأبدية في دار الخلد، وجنّة الرّحمن سبحانه وتعالى، فقد قرّر القرآن الكريم في ثناياه الربّانيّة، أنّ الإحسانَ يجعل الإنسانَ أكثرَ سعادةٍ في الدّنيا، وأنَّ إنفاق المال على الفقراء؛ يمنحُ الإنسانَ السَّعادة الخالدة، فالإنسانُ لا يستطيعُ بعد الموتِ أخذَ ماله، ولكنَّه يستطيعُ أن يجعلَ مالَه شافعاً وظلّاً له، يستقبلُه إذا أنفقَهُ قبلَ رحيلِه، ومن جوهر السَّعادة البعدُ عن الخوف والحزن، وهذا ما يكون في إنفاق الأموال، قال الله تعالى:(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) }البقرة: 261-262{.
ولقد قرأ صحابةُ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم هذه الآيات ومثيلاتها قراءة تدبّر وتأمّل، فعلموا الخير الّذي دعت إليه، وأثر الإنفاق في إصلاح مجتمعهم، وصناعة الرّيادة في حياتهم، فسابقوا إليه، وتنافسوا فيه، ففي بداية فجر الإسلام، كان الصّحابة يعانون من قلّة ذات اليد، وضيق العيش، ولما فتح الله عزّ وجلّ لهم خزائنَ الأرض، وأتتهم الأموال، كان همّهم منصرفاً إلى كيفيّة استثمارها في آخرتهم، فأنشؤوا دور العلم، وصروح الثّقافة، وحلقات التّربية والتّزكية، وجهَّز كثيرٌ منهم الجيوش، وأكثروا من الصّدقات، والعطف على الفقراء، وقضاء حوائج الأيتام، والقيام على الأرامل، وتطلّعت أنفسهم لعمل يجري به الثّواب بعد الموت، امتثالاً لما رواه سيّدنا أَبِو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ). رواه مسلم.
– وإنّ المتأمّل في تاريخ هذه الأمّة، ليجد أنّ العزّة والسّؤدد كان مصاحباً لها ما كان الوقفُ قائماً فيها، فعّالاً في مؤسساتها، بمنظومته الّتي شرعها الله تعالى، فقد ندب دينُ الإسلامِ إلى الوقف، في وقت لم تعرف فيه الجاهليَّة هذا النّظام الجديد، وجعله قربة من القرب الَّتي يتقرَّب بها إليه؛ فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ»] رواه ابن ماجه[.، فكان الوقف من أعمالهم التي سارعوا إليها، فقد كان لسيِّدنا أبي بكر رضي الله عنه دورٌ بمكّة، فأوقفها على أولاده، وهذا من عين الحفاظ على المجتمع، والأسرة عضو فيه، وسيّدنا عمر رضي الله عنه أصاب أرضاً بخيبر، فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يستأمره فيها، كما يروي لنا سيّدنا عبد الله بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضاً، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ فِي الفُقَرَاءِ، وَالقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ». [أخرجه مسلم]، وفي خلافته رضي الله عنه أعلن صدقته، ودعا نفراً من المهاجرين والأنصار، فأخبرهم بذلك، وأشهدهم عليه، فانتشر خبرها، وتسابق الصّحابة في وقف كثير من أموالهم، وحبسها في أوجه الخير والبرّ، فعن بشر مولى المازنيّين قال، سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: (لمـّا كتب عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه صدقته في خلافته، دعا نفراً من المهاجرين والأنصار، فأحضرهم ذلك، وأشهدهم عليه، فانتشر خبرها، فلم أعلم أحداً كان له مال من المهاجرين والأنصار إلَّا حبَّس مالاً من ماله، صدقة مؤبّدة، لا تُشتَرى، ولا تُوهَب، ولا تورث).الإسعاف فى أحكام الأوقاف، لإبراهيم الطرابلسي.
– وقد أوقف سيّدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه أملاكَه بخيبر على أولاده، كما سبّل بئر رومه لوجه الله تعالى.
– وأوقف سيّدنا عليّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه عيوناً من الماء في ينبع، كما أوقف ضيعتين تسمّى إحداهما عين أبي نيزر، والثّانية تسمى البغيبة، وجاء في وقفها: ( بسم الله الرّحمن الرّحيم، هذا ما تصدّق به عبدُ الله، عليُّ أميرُ المؤمنين، تصدّق بالضّيعتين المعروفتين بعين أبي نيرز، والبغيبة، على فقراء المدينة، وابن السّبيل، ليقي اللهُ بهما وجهَهُ حرَّ النَّار يوم القيامة، لا تباعا ولا تورثا، حتَّى يرث الله الأرض وهو خير الوارثين، إلَّا أن يحتاج إليهما الحسن أو الحسين، فهما طلق لهما، وليس لأحد غيرهما). نثر الدر في المحاضرات – منصور بن الحسين الرازي، 1/205.
ولقد أوقفت السّيّدة أسماء بنتُ أبي بكر رضي الله عنها دارَها صدقةَ حبسٍ، لا تُوهَب ولا تُورَث).
وتصدَّقت أمُّ المؤمنين أمُّ حبيبة بنتُ أبي سفيان رضي الله عنها بأرضها في الغابة، صدقةً على مواليها، وعلى أعقابها حبْسَاً، لا تُباع ولا تُوهب ولا تُورث.
– وروى البخاريُّ ومسلمٌ عن سيّدنا أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَى، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَى، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا، يَا رَسُولَ اللهِ، حَيْثُ شِئْتَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ» فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ). وقد احتبس سيّدنا خالدُ بن الوليدِ رضي الله عنه أدراعَه وأعتادَه في سبيل الله تعالى .
والوقف -كما سيأتي معنا في الحلقات المقبلة- هو: تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وهو صدقة جارية يقفها المرء ويسبّلها في حياته لوجوه الخير والبرّ، فيستمرُّ أجرُها مادامت باقية، وفي هذا عظيم المنفعة للواقف، بإجراء حسنات له في حياته وبعد مماته، لما في ذلك من فضائل الوقف النَّافعة الّتي تعين على الخير والأعمال الصالحة، وتعين أهل العلم والعبادة، وتسدّ حاجات الفقراء والمساكين، والمرضى والمعوزين، وترفع راية الدّين، بنشر العلم النّافع، وبناء المدارس، ودور الأيتام.
أخي المسلم: إنّنا في وقف دار التّقوى ندعوك لتقوية وتمتين عمل إسلاميّ مهمّ، يتناول بناء أبناء الأمّة، وستجد في صحائف أعمالك، وسجلّ حسناتك علالماً عاملاً، وداعيةً منهضاً، وأجيالاً واعدة في بثّ الخير والفضيلة، وذلك بما تنفقه على هذا الوقف، وقف دار التّقوى، لتجعله ينطلق بثبات وقوّة.
أخي الحبيب: إنّ الجنّة سلعةُ الله الغالية، وما وهبنا الله من أموال هي أمانة في أيدينا، فإن أنفقنا؛ قدّمنا لأنفسنا، وإلّا رحلنا عنها، وتأمّل في حال قارون، وكيف أردته أمواله: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ القصص:81. والمال الّذي في أيدينا على قسمين: قسمٍ لنا، وهو الّذي نقدّمه للآخرة، وندّخره عند الله عزّ وجلّ، وقسمٍ عندنا، وهو أمانةٌ ينتظرُ أصحابُه تسليمَه إليهم بعد الموت، وهم الورثة وأصحاب الحقوق.
وكم من مسكين جمع الملايين، وكدّ وكدح في جمعها، ولم يوقف شيئاً منها في حياته، ولمـّا توفّي، رفض أبناؤه بناءَ مسجد واحد له من هذه الملايين! وكم من موظّف أو موظّفة، يأتيهما مرتَّبٌ جيّدٌ كلَّ شهر، ولهما سنوات طويلة يعملا، ولم يوقفا لنفسهما شيئاً! بل جُلُّ أموالهما في الطَّعام والشَّراب والمتع الزّائلة، وغير الضّروريّة.
أخي المسلم: يا من خلقك الله للعبادة، وابتلاك بالمال، لا تزال تسير في هذه الحياة، حتّى يأتيَك هادمُ اللّذَات، شئت أم أبيت، عاجلاً أم آجلاً، إمَّا في سنِّ الشَّباب، أو عند الهرم والشيخوخة، وكلُّها سنواتٌ قليلة، وترحل من فوق الأرض إلى تحت الأرض، فمن أين لك بالحسنات تجري عليك؟! إنّها الأوقاف الّتي تدفع إليك الحسنات، في وقت أنت أحوج ما تكون عليك بدريهمات قليلة، فاجعلها لك ذخراً: إمّا في طالب بمالك يتعلّم، أو كتاباً نافعاً تنشره، أو لبنة في بناء، أو إسهاماً في مشروع ينفع الإسلام والمسلمين، إنّه عمل من أعمالك في الدّنيا تجري عليك حسناتُه، وأنت في قبرك، وهذه منّة من الله تعالى، وفضل أن جعل العبد يسعى فيما لا ينقطع فيه أجره بعد مماته، ويا من أوقفت من مالك لوجه الله تعالى، أبشر بانشراحٍ في الصَّدر، وسعةٍ في الرّزق، ونماءٍ في الأموال، وطمأنينةٍ في الدُّنيا، فإنَّك تعمل وتقدّم لآخرتك، وسوف تُسَرُّ بما تقدم.
وفي اللِّقاءات المقبلة، سنعيش مع معاني هذا الوقف ، ومقاصده، فحتّى ذلكم الحين، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
Sorry, the comment form is closed at this time.