الوقف الخيريّ بين الأمس واليوم

الوقف الخيريّ بين الأمس واليوم

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
بعد ما شرع النبي r الوقف قولاً وعملاً، اهتم الصحابة رضوان الله عليهم بالوقف في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته، فروي أن الخلفاء الراشدين وقَفوا، وروي الوقف عن العشرة المبشرين بالجنة وعن أمهات المؤمنين، بل روي أن كل الصحابة من كان منهم ذا سعة وقف, وأخذ المسلمون بهذه السنة المباركة، على مر العصور، وفي مختلف البلدان، وعلى مختلف الأغراض، فلم يبق عمل من أعمال البر، ولم تظهر أي مصلحة من المصالح العامة إلا وُقف عليها، وقف على الفقراء والمساكين والأيتام، وعلى مصالح الناس من المساجد، والمدارس، والمشافي، والطرق، والأنهار، والجسور، والمساقي، وقفوا على الإنسان والحيوان الانسى والوحشي .
حلَّ المسلمون بالوقف أعظم معضلة اقتصادية واجهت ولا تزال تواجه البشرية فلا يزال السؤال الأزلي يوجه دائماً، هل تتجه الدولة إلى الملكية العامة؟ أم تتحيز للملكية الفردية؟ تذبذبت البشرية بين الشيوعية، والرأسمالية، وواجهت ويلات النظامين.
وهدى الله المسلمين إلى أفضل حل فحينما بدأت الفتوح، واتسعت، وانتشر الإسلام واجه المسلمون في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب t هذه المعضلة فهُدوا إلى حلها بالوقف، فوُقفت كل الأراضي المفتوحة على مصالح المسلمين عامة, وحينما نستحضر أن الاقتصاد في ذلك الوقت كان رعوياً وزراعيا، ونستحضر حجم الأراضي الموقوفة، وهي كل الأراضي التي فتحت عنوه، ولا تقل عن تسعين في المائة من الأراضي الزراعية في دار الإسلام، وعلى سبيل المثال كانت كل أراضي سواد العراق خراجيه أي أراضي موقوفة على مصالح المسلمين عدا ثلاث قرى، وعندما نستقرئ التاريخ، نرى الحكمة العظيمة التي هدى الله المسلمين لها، فكانت قوة الدولة الإسلامية تسير بصفة مطردة بين القوة والضعف تبعاً لقوة هذا النظام أو ضعفه .
فبعد أن تحول نظام الخراج بسبب طيش الحكام وقصر أنظارهم إلى نظام الإقطاع، وتوالى فقد الأراضي الموقوفة بإقطاعها للأشخاص تدهورت الدولة الإسلامية وتحولت إلى دويلات.
لم يصل المسلمون إلى ذلك الحل الرائع بطريق الصدفة أو عفو الخاطر بل نتيجة للتفكير والموازنة بين المصالح بل لقد انقسم المسلمون إلى حزبين -في النظر إلى هذه القضية- عمر بن الخطاب y ومن يرى رأيه، وبلال y ومن يرى رأيه، ممن كانوا يعارضون وقف الأراضي المفتوحة ويرون قسمتها بين المسلمين كغيرها من الغنائم ولقد طال النقاش وتقابلت الحجج واحتدم الجدال مما دعا عمر y أن يقول: اللهم اكفني بلال وأصحابه, ثم أراد الله للمسلمين الخير فانتصر الرأي القائل بوقف الأراضي المفتوحة وكان ذلك نعمة كبرى على الإسلام والمسلمين وظل المسلمون يتمتعون بهذا النظام حتى ضعف بتحوله إلى نظام الملكية الفردية ففقدت الدولة الإسلامية أهم ركائزها .
وبالرغم من تدهور الدولة الإسلامية فقد بقيت الحضارة الإسلامية راسخة تزدهر وتنمو، وكان ذلك بفضل الله على المسلمين، ثم بفضل نظام الوقف.
فبالأوقاف التي ظل الواجدون من المسلمين يتفننون في تنفيذها لم تتأثر الحضارة الإسلامية ولا المجتمعات المسلمة بقيام الدول أو سقوطها، بل استطاعت أن تقاوم الغزو الخارجي الطاغي، حينما تعرضت لاجتياح الصليبيين والتتار، وظلت مقاومة الحضارة الإسلامية لهذا الاجتياح مثلاً نادراً في تاريخ البشرية.
لقد ساعد على فعالية نظام الوقف في حياة المسلمين المبادئ التي قام عليها وأهمها :
1- امتناع التصرف في أصل الوقف، وقد تحقق بهذا المبدأ حماية الوقف وعدم تعريضه لطيش المتولين عليه أو سوء نيتهم .
2- ما استقر لدى الفقهاء من أن شرط الواقف الصحيح مثل حكم الشارع فتحققت بذلك حماية الوقف واطمئنان الواقف إلى استمرار صرف وقفه في الأغراض التي تهمه ويُعنى بها .
3- ولاية القضاء على الأوقاف، فتحققت بذلك حماية الوقف من تدخل السلطات الإدارية الحكومية .
اثبت التاريخ أن أي إخلال بمبدأ من هذه المبادئ كان مسماراً يدق في نعش الوقف فحينما استولت الدول الاستعمارية على بلاد المسلمين في القرنين الماضيين، وكانت تدرك أن الصراع السياسي يعتمد في حسمه على نتيجة الصراع الثقافي والحضاري كان هم الاستعمار الأول القضاء على الحضارة الإسلامية أو إضعافها إلى أقصى درجة ممكنة، ولما كان الوقف هو سند الحضارة الإسلامية وأساس قوتها كان من الطبيعي أن يتوجه المستعمر إلى إضعاف نظام الوقف أو القضاء عليه .
وكانت وسيلته في ذلك إدخاله في مجال التنظيم الإداري الحكومي تمهيداً لوضعه تحت سلطة الإدارة وسيطرتها .
وحققت هذه السياسة نتائجها فقُضِي على نظام الوقف تقريباً في العالم الإسلامي أو شلت فعاليته .
واستمرت هذه السياسة المشئومة في بلدان العالم الإسلامي حتى بعد زوال الاستعمار .
انتهى الأمر في بلاد كمصر العربية إلى صدور نظام يقضى بتحويل الأوقاف في جمهورية مصر العربية إلى مؤسسة عامة تشمل سلطتها كل الأوقاف في الجمهورية عدا الأوقاف التابعة لهيئة أوقاف الأقباط، وعدا الوقف الذي يوقفه صاحبه ويجعل النظارة له وذلك مدة حياته، وعندما يموت يعود إلى المؤسسة العامة، واضح أن النتيجة العملية لهذا النظام وهي خضوعه لكل مساوئ البيروقراطية، والعجز الإداري وأسوأ من هذا كله قيام رادع فعال يمنع أهل الخير من النشاط للوقف ماداموا يعرفون أنه سيؤول إلى الإدارة الحكومية التي إن وثقوا بأمانتها فإنهم لا يثقون بكفايتها .
إن من المحزن أن تسمع بين الآونة والأخرى حتى من إخواننا الطيبين في بلادنا الطيبة الدعوة إلى التنظيم الحكومي للأوقاف، غافلين عن الآثار المميتة لهذا الإجراء، وغير معتبرين بدروس التاريخ وسنن الحياة، وتجارب غيرنا .
إن الاغترار بالشعارات، والانسياق وراء العبارات، والتقليد الأعمى، والانقياد للآراء الشائعة بدون إعمال العقل والتفكير الموضوعي، والغفلة عن موجبات العلم مرض شائع مع الأسف، خليق بأن يزين لنا سوء أعمالنا فنراها حسنة فيَضِلُ سعينا في الحياة ونحن نحسب أننا نحسن صُنعاً.
في إحدى الندوات المتعلقة بالوقف، قدم أخ فاضل نحسبه من الدعاة، والعاملين للإسلام والحاملين همه ورقة مضمونها الدعوة إلى أن نقلد الدول العربية الأخرى في إدخال الوقف تحت سلطة التنظيم الحكومي وضرب المثل بالنظام المصري، ولما ناقشته تبين أنه لم يطلع على هذا النظام فضلاً على أن يعرف نتائجه المدمرة وآثاره السلبية على نظام الوقف في مصر .
ينبغي أن نوقظ إخواننا الصالحين حَسني النية والقصد من غفلتهم، ونفتح عيونهم، على أن تأميم العمل الخيري وبخاصة الوقف خطة تفتقد الحكمة وهي جديرة بأن تعكس على صاحبها قصده فهو يريد القوة للنظام ونتيجته الطبيعية الضعف، ويريد الإصلاح ومآله الفساد .
ولهذا فإن من أعطوا الحكمة في معاشهم وعلموا ظاهراً من الحياة الدنيا ممن يسمونهم الدول المتقدمة قد انتبهوا لهذا الأمر فحذروه أشد الحذر .
على سبيل المثال : يوجد في المملكة المتحدة البريطانية، والولايات المتحدة الأمريكية، والدول التي يسود فيها النظام القانوني الإنجلو سكسوني نظام يشبه الوقف يسمى ( الترست ) .
وقد حرصت حكومات هذه البلدان على عدم التدخل في هذا النظام، واقتصرت على إيجاد نوع من الإدارة يهتم بالرقابة، والمعاونة، وتجميع المعلومات، وتقديمها لذوى العلاقة وأبقت لهذا النظام خصوصيته و فرديته، وحذرت أن تتدخل في إدارته وليس المجال متسعاً لبيان نتائج هذه السياسة الحكيمة والتي من أهمها تطور هذا النظام، واتساع نطاقه، وقدرته على التحرك ومواجهة حاجات المجتمع المختلفة، والمتعددة والمتغيرة .
إن من المفارقات العجيبة أنه في هذا العصر الذي كشف عن خطأ سياسة التأميم، واتجه بكل قوة إلى الدعوة إلى تخصيص المشاريع، مع ما هو واضح من تأثير التخصيص على العدالة الاجتماعية ومتطلباتها، نرى من أبناء وطننا من أهل الخير والصلاح والعلم، ومن العاملين للإسلام الحاملين همه من يدعو أو يحبذ أو يؤيد السعي لتأميم الأوقاف، وإخضاعها لسيطرة الموظف العام، مع أن نظام الوقف كان في الإسلام وطوال تاريخه من أعظم وسائل العدل الاجتماعي.
أيها الإخوة الصالحون الحريصون على شمول الأوقاف ببركات سيطرة الموظف العام، أليس من المحزن أننا في عصر النضج العقلي وسهولة الإطلاع على تجارب الآخرين صائبها وخاطئها نظل أسرى للأوهام، عبيداً للأفكار الشائعة، عاجزين عن الترجيح بين الايجابيات والسلبيات، ولا نسمع من كل ناعق إلا الدعاء والنداء.
أيها الإخوة:
أليس من المحزن بل مما يجعل العين تذرف دماً لا دمعاً أن نرى في بعض البلدان الإسلامية الأخيار ممن يرغبون في الوقف لا يجدون لأوقافهم مأمنا من غول الموظف العام وتغوله في بلادهم فيلجئون إلى إنشاء مؤسساتهم الوقفية في بلدان العالم الصناعي مدركين أنهم إن لم يأمنوا حسن النية من حكوماتها فهم مطمئنون إلى حماية النظام القانوني فيها.

وبالله التوفيق

No Comments

Post A Comment