05 أبريل الصّحابة وفقههم لمقاصد الوقف
– قلنا في اللّقاء الماضي بأنّ الوقفَ صناعةٌ للحياة، وإصلاحٌ للمجتمعات، ولقد أدرك الصّحابة رضي الله عنهم فقهَ الوقف؛ والمقصد العامَّ من تشريعه، فكان الوقفُ من أعمالهم الَّتي سارعوا إليها، فقد كان لسيِّدنا أبي بكر رضي الله عنه دورٌ بمكّة، فأوقفها على أولاده، وهذا من عين الحفاظ على المجتمع، -والأسرةُ عضوٌ فيه-، وسيّدُنا عمرُ رضي الله عنه أصاب أرضاً بخيبر، فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يستأمره فيها، كما يروي لنا سيّدنا عبد الله بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضاً، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضاً لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ، أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ، فِي الفُقَرَاءِ، وَالقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ»(1)، وفي خلافته رضي الله عنه أعلن صدقته، ودعا نفراً من المهاجرين والأنصار، فأخبرهم بذلك، وأشهدهم عليه، فانتشر خبرها، وتسابق الصّحابة في وقف كثير من أموالهم، وحبسها في أوجه الخير والبرّ، فعن بشر مولى المازنيّين قال، سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: (لمـّا كتب عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه صدقته في خلافته، دعا نفراً من المهاجرين والأنصار، فأحضرهم ذلك، وأشهدهم عليه، فانتشر خبرها، فلم أعلم أحداً كان له مال من المهاجرين والأنصار إلَّا حبَّس مالاً من ماله، صدقة مؤبّدة، لا تُشتَرى، ولا تُوهَب، ولا تورث)(2).
– وقد أوقف سيّدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه أملاكَه بخيبر على أولاده، كما سبّل بئر رومه لوجه الله تعالى.
– وأوقف سيّدنا عليّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه عيوناً من الماء في ينبع، كما أوقف ضيعتين تسمّى إحداهما عين أبي نيزر، والثّانية تسمى البغيبة، وجاء في وقفها: ( بسم الله الرّحمن الرّحيم، هذا ما تصدّق به عبدُ الله، عليُّ أميرُ المؤمنين، تصدّق بالضّيعتين المعروفتين بعين أبي نيرز، والبغيبة، على فقراء المدينة، وابن السّبيل، ليقي اللهُ بهما وجهَهُ حرَّ النَّار يوم القيامة، لا تباعا ولا تورثا، حتَّى يرث الله الأرض وهو خير الوارثين، إلَّا أن يحتاج إليهما الحسن أو الحسين، فهما طلق لهما، وليس لأحد غيرهما).(3)
ولقد أوقفت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دارها صدقة حبس لا توهب ولا تورث.
وتصدّقت أمّ المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها بأرضها في الغابة، صدقة على مواليها وعلى أعقابها حبساً لا تباع ولا توهب ولا تورث.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاً، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخلها ليشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية، قال أبو طلحة: يا رسول الله إن الله يقول: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]. وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {بخ ذلك مالٌ رابح، ذلك مالٌ رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه}(4).
وقد احتبس خالد بن الوليد رضي الله عنه أدراعه وأعتاده في سبيل الله تعالى.
– هذه بعض الصَّفحات المشرقة للصّحابة في تعاملهم مع الوقف، وسنقف في الحلقة المقبلة عند مفهوم الوقف فقهاً وحِكَمَاً، فحتَّى ذلكم الحين أستودعكم الله تعالى الّذي لا تضيع ودائعه، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
No Comments